
الإلوري وفنّ التّحقيق
إنّ غاية مبدأ عملية التّحقيق تستهدف إلى إثبات المخطوط من المحقّق على وجه الصّحيح ووضع العمل بدون شرح لا زيادة ولا نقص.
وإذا كان المطبوع مملوء بالتّخليط، قام المحقق بالتّجريد وتفصيل الأصل من التّخليط.
وإن كان لابدّ من التّعليق على تفسير الغموض وسير الأعلام وتخريج الحديث وجب اعتناء الإيجاز لكيلا تثقل القراءة على القارئ أو التّحويل إلى الشّروح دون المتون، اللهّم إلاّ بإشارة المحقّق في الغلاف إلى التّحقيق والتّعليق. وخلاصة المطلوب على التّحقيق لدى العلماء
تحقيق إسم الكتاب
تحقيق إسم المؤلف ونسخة الكتاب إليه
تحقيق المتن وخطّ النّاسخ والمراحل التي مرّت الخطّيّة اليدوية على الكتاب قبل التّحقيق.
والأحسن تنبيه المحقق على المصادر إذا أمكن ذالك
تصحيح الخطأ الطّارئ من المؤلّف في لفظ أو إسم(1).
وقد أدركنا في ثنايا بيانات الإلوري حول تحقيق التّراث كلمات توضّح لنا موقفه في تعريف التّحقيق والتّعليق أو التّقويم أو التّحسين وقال: "وليس التّحقيق تحسينا أو تصحيحا لمتن الكتاب، وإنمّا هو أمانة الأداء الّتي تقتضيها أمانة التّأريخ، فإنّ متن الكتاب حكم على المؤلّف وعلى عصره وبيئته وهو اعتبارات تأريخية لها مكانتها، كما أنّ ذالك الضّرب من التّصرف عدوان على حقّ المؤلّف الّذي له وحده حقّ التّبديل والتّغيير، وإذا أفطن المحقّق إلى شيء من الخطأ نبه عليه في الحاشية أو في آخر الكتاب، وبين وجه الصّواب إلاّ ما كان من القرآن أو الحديث فلا بدّ أن يوضع في نصابه"(2).
وأمّا ما يتعلّق بالتّصحيح فهو المهارة التي يشترك فيها الحدس والحواس والأناة، كما وصف ذالك لنا الإلوري بقوله: "ويحتاح تصحيح المطبوعات (أو المخطوطات) إلى خبرة ودراية وصبر وأناة وتكرار النّظر والمراجعة والتّحقيق في النّسخة الأولى المسماة بالبروفة تصحيح مرّات عديدة قبل تكثير النّسغ ولا يكون ذلك بعين واحدة بل بعدة عيون من عدّة المصحّحين".
وقد يؤمن الإلوري في خدمة التّراث والمخطوطات تصحيح ما يحتاج إلى التّصحيح في متون المخطوطات بدون خيانة العلم ولا إهانة فضل السّالف العالم.
وقد أرى أنّ الكتاب الدّراسي العتيق إذا صلح لمنهج الدّراسي الحديث، ولا بأس بتعديل ما يحتاج إلى التّقويم، إمّا بتغيير أو بحذف أو بإضافة أو بشرح الغموض، وتتمّ هذه بشرط بيان أو تفريق الأصل من الفرع في الهامش أو ما يشبه ذالك، سواء كان المؤلّف حيّا أو ليس من الأحياء.
وعلى سبيل المثال فكتاب تعليم المتعلّم طريق التّعلّم للشّيخ برهان الدّين الزّرنوجي الحنفي الذي عاش في القرن السّادس الهجري، لَكتاب صالح من الأمس حتّى اليوم في منهج التّعليم وأحوال الطّلبة، إلاّ أن الحاضر قد كذّب فيه بعض التّنظير، وفنّد بعض الدّعاوي والمواقف الّتي لا يؤيّدها المعرفة والتّجريب الطّبي، وعلى الحاضر الثّناء والإشادة على ما قام واعتدل من الفكر القيّم والتّعديل بأدب وحرمة ممّا فيه اعوجاج وخديج الفكر.
فجزى الله خيرا للأخ إبراهيم بن يوشع الشّاعر الحواري الذي سعى في هذا الكتاب سعي الأديب التّربوي، في عام 2015م ووضع نظما لكلّ فكرة باب من أبواب الكتاب على نظرية نظم ما نُثر، وسمّى عمله هذا بـ "إرشاد المتعلّم إلى طريق التّعلّم".
وعلى هذا فصّل الإلوري بين الدّكتور طه حسين وبين تلميذه محمود محمّد شاكر، إذ قد اتّهم المسلمون طه حسين أنّه عميل الاستشراق بما يظهر منه من لبسات مشؤمة على الأدب الإسلامي والأدب العربي على سواء.
وحاصل، أنّه ادّعى أنّ الشّعر الجاهلي انتحال وكذب موضوعٍ على أقلام رواة العصر الأموي، وليس لامرئ القيس ولا لزهير وغيرهما من هذه الصّنيعة الفائقة. وقد سبق طه حسين في مثل هذا الافتراض المستشرق الإنجليزي مرجليوت في مجلّة الاستشراكية بمصر، فهاجمهما التّلميذ محمود محمّد شاكر في عام 1928م، وكانت هذه المهاجمة صدمة وثورة في تأريخ الأدب العربي بمصر حينذاك، وبداية المعركة الأدبية بين الطّالب وأستاذه.(3)
توسّط رأي الإلوري في هذا الصّدد بالقول الفيصل الّذي لا يميل عن الإنصاف: "ولو أمعن الباحث النّظر في الذين جمعوا الأشعار الجاهليّة كالأصمعي، وحماد الرّاوية، وخلف الأحمر، لوجدوا أنّهم صحّحوا منها الشّئ الكثير ولم ينشروها على علاّتها أو يرسلوها على عواهنها.
كلّ ذالك دليل قاطع على أنّ كلّ أمّة تحفظ لسلفها الأثيل التّالد ولا تهدم"(4).
ولا يتناقض النصّ الأوّل الثّاني (أي: نصّ التّصحيح ونصّ التّفصيل) إلاّ أن تقمّص الثّاني الإيضاح والبيان، ولا بأس بتصحيح المتون أو تغيير بعض العبارة تحقيقا إذا حسبنا ذالك في الأخطاء الطّباعية أو جحدت العبارة مهارة الكاتب، لكن لا بدّ من أن يكون التّصحيح بين القوسين أو تحت الهامش أو بالتّعيين.
ومن جانب التّحقيق التّطبيقي، فقد ترك الإلوري فيه بصمات خدمة خير للتّراث، وهذه الخدمة أنواع وأصناف.
الصّنف الأوّل: إعادة طبع تراث السّابقين مع سعى الضّبط والتّحقيق، كما فعل الإلوري في منظومة أبي إسحاق إبراهيم الإلبيري الأندلسي (1290-1346هـ)، وكتاب متن الورقات للإمام الحرمين الجويني (419-478هـ)، وطبع هذان الكتابان
في مطبعة الثّقافة الإسلامية، أغيغي عام 1982م، وكذالك ما قدم في كتاب معرفة الضّمائر للشّيخ محمّد بن معطي الكشناوي وطبع في نفس المطبعة.
الصّنف الثّاني: إخراج مخطوطات القدامي من طيّ العدم إلى الوجود، وهذا الإخراج إمّا بالشّرح والنّشر من جديد، كما في كتاب شرح رائية الإعراب لعبد الله بن فودي الذي طبع في المرّة الأولى 1393هـ في المطبعة المباركة أبيوكوتا.
أو بالشّرح وإعادة نشر ما قد اندرثت آثاره، كما عمل الإلوري في شرح قصيدة ابن ناصر الدّرعي المغربي على عنوان شرح عون الحبيب النّاظر، وكذالك ما فعل بعيون اللاّميات العرب.
الصّنف الثّالث: جمع تراث القدامي على وجه التّحقيق والتّصحيح كما فعل الإلوري في كتاب قال الشّيخ، والفواكه السّاقطة وقواعد الصّلاة، إلاّ أنّ قال الشّيخ وقواعد الصّلاة ممّا ينسب إلى ابن قودي وزاد عليهما الإلوري.(5)
وممّا اندرج مع هذا الصّنف كتاب الواعظ الّذي أخرجه لجنة الموعظة في رابطة الأئمّة والعلماء في بلاد يوربا وطلبت اللّجنة من الإلوري القيام بالتّصحيح، والتّحقيق، وطبع في مطبعة الثّقافة الإسلاميّة بدون ذكر التّأريخ.
الصّنف الرّابع: إخراج تراث القدامى مع التّعليق والتّعقيب والتّهذيب كما في أخبار القرون من أمراء بلاد إلورن للشّيخ أحمد بن أبي بكر بن إكوكورو الفلاني الإلوري (1870-1936م)، وطبع في أكتوبر 1991م بدون ذكر المطبعة. وعلى هذا قدّم الإلوري قصيدة قبا للشّيخ عليّ بن محمّد ابن العليف، وطبع في الأولى بمكتبة الثّقافة الإسلاميّة، أغيغي، أبريل 1987م.
ومنظومة صرف العنان الّذي نظمها الأديب محمّد مودّ بن محمّد صلاح بن موسى الكشناوي عام 1186هـ، أخرجه الإلوري عام 1975م بمكتبة القاهرة.
الصّنف: الخامس: إصدار منشورات على نوع جمع واختيار وترتيب، وليست من صميم قريحة الكاتب، وقد يعدّ من أنواع صناعة التّأليف كما أقرّ ذالك أحمد بن محمّد المقري (ت 1041هـ، ومثل هذا النّوع: أناشيد مركزية، والمحفوظات الأدبية والمقطوعات الأدبية.
__________
1- صلاح الدّين المنجد (الدّكتور) خلاصة ما في كتابه: قواعد تحقيق النّصوص، الطّبعة السّادسة، 1980م دار الكتاب الجديد، بيروت، لبنان، ص: 17 وما بعدها
2- آدم عبد الإلوري، نظام التّعليم العربي وتأريخه في العالم الإسلامي، الطبعة الثاطثة، دار العربيّة للطباعة والنّشر، بيروت، 1981م، ص: 117
3- نقلا من مقالة الشيخ آدم عبد الله الإلوري: أحد العمالقة الأربعة، للدّكتور يوسف كولاوولي جمعة فى الشّيخ آدم عبد الله الإلوري في موكب الخالدين، المجلد الثّاني من منشورات المركز النّيجيري 2012م، ص: 599-645
4- آدم عبد الله الإلوري، الإسلام اليوم وغدا في نيجيريا، مكتبة وهبة، القاهرة، الطّبعة الأولى 1985م، ص: 166
5- محمد ثوبان بن آدم الإلوري، معجم مؤلفات الإلوري، من منشورات مركز العلوم، أوتوبو، الطّبعة الأولى 2018م، ص:351.